
ما من شيء يُسيء للمجتمع ويُبطِّئ نموه، بل ويجعله متخلفاً وقابعاً في مصاف المجتمعات البدائية، أكثر من الأنانية وحب الذات، والانتصار لها، وهذه الصفة بالذات لا يظهر مفعولها وتأثيرها السلبي إلا حين تسود في المجتمع، ويتحول معظم أفراده إلى أشخاص يفكرون بطريقة الأنا؛ فيعملون لأمجاد شخصية، ويحبون لأهواء فردية، ويغضبون ويخاصمون لمصالح خاصة.
ويعتقد من تلبَّس بتلك الصفة أن كل الناس على خطأ وهو الوحيد على صواب، ويؤمن إيماناً تاماً أن جميع الطرق خاطئة إلا طريقته، وأنه لا يوجد سوى حل واحد يمكن القبول به، وهو بالطبع ما يراه؛ أما خلافه فهو غير مقبول وصاحبه لا يفقه شيئاً!
ترى تلك الفئة من الناس أنها في حالة حرب دائمة مع من يختلف معها؛ فهم يعدونهم أعداء، وبهذا الفكر يسوِّغون لأنفسهم مجابهتهم بنفس الطريقة التي توهموها عنهم، فيسمح الواحد منهم لنفسه بالإساءة لهم، ومضايقتهم، وعدم منحهم حقوقهم، أو فرصة للدفاع عن أنفسهم، والعمل ـ قدر المستطاع ـ على تهميشهم، ومحاولة “تطفيشهم”. كل ذلك لا لشيء فعلوه أو لذنبٍ اقترفوه، ولكن بسبب اختلاف صغير في وجهات النظر أدّى بهم إلى كل تلك المعاناة.
والمشكلة أن بعض الأشخاص قد يتعرض للظلم، سواء بقصدٍ من الفاعل أو دون قصد؛ فتكون ردة فعل من وقع عليه الظلم شديدة ومؤذية، ويتحول في لحظات من مظلوم جُهل عليه، إلى ظالم فجر وتعدى على غيره، بل ربما يستمر في ظلمه صاحبه ومضايقته أبد الدهر، وكل ذلك من باب الانتصار للذات.
وأنا حين أقول هذا الكلام لا أقصد أن يتقوقع الإنسان على نفسه ويرضى بظلم الآخرين له؛ فلا ينتصر لنفسه، ولكني أرى أن هناك ثلاث طرائق يمكن أن يسلك منها اثنتين ويجتنب الثالثة ولا يقترب منها.
فالطريقة الأولى في حال تعرضه لمظلمة حقيقية: أن لا ينتصر لنفسه وذاته، بل يعفو ويصفح من باب قوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} وقوله {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
والطريقة الثانية: أن يأخذ حقه فقط دون زيادة ولا نقص {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} (الشورى).
أما الطريقة الممنوعة والمنهي عنها فهي العدوان والمبالغة في الانتصار للذات، وكما يقول المولى عز وجل: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الشورى).
ولكن الإشكال أن بعض الناس ربما ينتصر لنفسه وذاته دون مبرر؛ بل لمجرد اختلاف في وجهات نظر، حوَّلها إلى قضية كبيرة، ووقف أمام مخالفه موقف العداء، وحاول النيل منه بسبب ذلك الخلاف، وهذه العينة من الناس، أو الأشخاص الذين يفكرون بهذه الطريقة، لا يتورعون عن عمل أي شيء في سبيل إثبات وجودهم وتفوقهم على الآخرين، وشعارهم هنا هو قول زهير بن أبي سلمى:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يُهدَّم ومن لا يَظلم الناس يُظلم
ومع أنه ليس هناك حوض، ولا حتى مياه! والمسألة لا تتعدى في الغالب آراء بسيطة، واختلافاً في وجهات النظر، إلا أن بعض الناس يظن أن لرأيه حرمة لا يمكن ولا يحق لأحدٍ أن يعتدي عليها، ومن يفعل فقد باء بغضبه وكان عرضة لانتقامه!
وبالمناسبة فتلك الفئة لا تنفرد فقط بالخصلة المذمومة التي نتحدث عنها؛ بل إن المنتمين إليها متفوقون أيضاً وبامتياز في صفة أخرى، هي في الغالب قرينة لها، ولا يمكن أن تفارقها، وهي الانتهازية؛ حيث لا يفوتون الفرصة أبداً، ولا يهمهم إن كانت من حقهم أو لا.
همهم الأول والأخير الحصول على ما يريدون ويسعون إليه، لا تسأل عن كيفية ذلك؛ فهذا غير مهم، حتى لو كانت عن طريق الصعود على أكتاف الآخرين أو أي جزءٍ من أجسادهم؛ فالتفكير منصبّ فقط على الهدف، أما الكيفية فغير مهمة.
مبدؤهم: أن الغاية تبرر الوسيلة؛ وامتداداً لذلك المبدأ يبذلون كل ما بوسعهم للحصول على ما يريدون، ويطلبون من الآخرين المساعدة، وتذليل كافة العقبات والصعاب التي قد تعترض طريقهم في تحقيق مبتغياتهم، وبالمقابل فهم لا يساعدون أحداً في تحقيق طموحه، بل قد يصل بهم الأمر في معظم الأحايين إلى افتعال المشاكل لتكون حائلاً دون وصول الآخرين إليهم وطلب المساعدة منهم.
فهد عبدالعزيز الغفيلي