يقول صاحبي: أجلس أحياناً أتأمل في نفسي وفي حالي وولدي وصحتي ومنصبي وأموالي فيقودوني كل ذلك إلى أن أتلفظ بالشكر لله الذي وهبني كل ذلك، ولو شاء لكان حالي على النقيض تماماً، ولكني استشعر بعد الشكر أن حالي أفضل وعطائي زاد، وأرى أثر ذلك كله في ولدي وأهلي وفي كل ما يحيط بي، فأتساءل في نفسي هل شكري ذاك كان على نعمة أسداها المولى إلي؟ أم إنه شكر مقدم لنعمة ستأتي؟ ولكني أقول إن الأولى هي الأنسب لحالي فأنا حين أشكر فإنما أحمد الله على نعمة منحنيها، ولكن ما يحصل أن العطاء يزيد بعد الشكر وهذا يختلف تماماً عن تعاملي مع جميع التجار فنحن نتعامل بخذ وهات هذه البضاعة وتلك قيمتها أما التعاملات الربانية فهي سخية وسخاؤها لا يتمثل في أنك تأخذ البضاعة وبعد دفع الثمن تعطى بضاعة أخرى ربما هي أغلى وأثمن من سابقتها بل الغرابة أن الثمن بخس جداً فأنت تعطى البضاعة وتدفع ثمنها كلاماً فقط لا يغني صاحب البضاعة ولا يزيد في ملكه شيئا وأحياناً وهذا السخي منا حين يأخذ البضاعة ويدفع القيمة من البضاعة نفسها فأي كرم يحفنا وأي تعامل راقٍ نعامل به (ولإن شكرتم لأزيدنكم) وأتمنى أن نستشعر جميعاً أننا كلما أعطينا دفعنا جزءاً يسيراً مما أعطينا جاءنا أضعاف ما دفعنا وقد صرت أطمع أحياناً فأدفع كل ما جاءني طمعاً بأني يأتي الرد أضعافاً وأقول في نفسي إن كان أضعاف القليل كثيراً فأضعاف الكثير ستكون أكثر.
يقول صاحبي: أحيانا أسمع قول الله عز وجل (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة) فلا تعلم الشعور الذي يخالجني؟ فأنا لا أستطيع وصفه فهو خليط من الخجل الشديد الممزوج بالطمع الشديد، وربما تتسائل كيف يكون ذلك؟ فأقول لك: إن مصدر خجلي متأتٍ من أن ما سوف أخرجه من مال ليس لي، بل هو في أصله لمن يطلب القرض، فكأنه حين يقول لي ذلك يشعرني أني المالك الحقيقي للمال، وعلى الرغم من أني كثيراً ما أنسى أن هذا المال ليس لي ولكنه مال الله إلا أن ذاك الخطاب وطلب الإقراض يقرع أعماق نفسي ويؤكد لها ما ذهبت إليه في أن المال حقها لا ينازعها فيه أحد، فأصحو وأعلم أن نفسي تجنت علي، وإلا فأنا ومالي وولدي كلنا لله ولهذا يشعرني ذلك الخطاب بالخجل فأقرض ما تيسر عن طيب نفس. أما مصدر طمعي فيتمثل في أني مثل أي تاجر آخر أحب جمع المال، وأفعل كل شيء من أجل زيادته وإنمائه، ولولا الخوف من محاربة الله لأقرضت بعض من طرق بابي من صغار التجار ووعد بمنحي زيادة تصل إلى الضعف، وهذا يسيل له اللعاب، فما بالك حين يطلب منك الإقراض والدفع سيكون أضعافاً لا تحصى؟ والمقترض قادر على الوفاء؟ والمخاطرة هنا معدومة، ألا يقودني ذاك لأن أطمع في هذه الصفقة التي أشعر معها بالمنة لطالب القرض واشعر بأني عاجز عن شكره وفتحه لي باب استثمارٍ لا يمكن أن أحلم بجزء منه مع أي من أقراني التجار.
أحياناً أدخل المسجد، وحين أفرغ من صلاتي، وأرى العدد الهائل من المصلين الذين يقضون صلاتهم، أقول في نفسي بأن الله أكرمني وفضلني في هذا الوقت على كل أولئك البشر فأنا حضرت باكراً وصليت ركعتين وقرأت شيئاً من كتاب الله وحضرت تكبيرة الإحرام وما فيها من فضل وغيري لم يفعل ذلك وبعضهم ربما لم يصلي في المسجد وتزيد نفسي بقولها: بل إن آخرين لم يؤدوا الصلاة على الإطلاق؛ وحين تبدأ النفس تزيين العمل أشعر أن الشيطان بدأ يقحم نفسه فيما أنا فيه فأعود إلى رشدي وأشكر الله وأقوم فأصلي ركعتين هي أقل ما يمكن فعله بعد الصلاة المفروضة في ذاك المكان شكراً للمولى الذي امتن علي لعلي بعدها أشعر بأني فعلت شيئاً ولو يسيراً مقابل كل تلك التياسير التي أسلفت ذكرها ولكني بعد أن أفرغ أجد نفسي في موقفٍ أضعف مما كانت عليه قبل أداء الركعتين، وكنت أظن العكس، فقد اعتقدت أن الركعتين ستكونان جزءاً ولو يسيراً مما اتعتزمت تقديمه من عمل شكراً لله على ما امتن به علي من العمل والطاعة التي تحدثت عنها في السطور السابقة إلا أن المعادلة لم تكن كذلك، والسؤال البديل كان: لماذا تنفلت بعد الصلاة وغيرك لم يفعل؟ هل هذا قوة وجلد منك؟ أم تسهيل وتيسير وهداية من الله؟ وبالطبع فالإجابة لا تحتاج لحاذق، ولهذا فأنا مدين أكثر، وخرجت من المسجد معلناً عجزي عن الشكر فأنا كلما أعطيت أتاني أكثر مما قدمت وكلما تنفلت كان ذلك زيادة فضل ونعمة من ربي علي.
يقول صاحبي: خلاصة قولي أننا مهما فعلنا وقدمنا من طاعات فليس لنا في ذلك فضل ولا منة بل هي نعمة من الله علينا (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) (الحجرات17) وكل ذلك يقودني إلى التفكر فيما حولي فقد كنت قبل ذلك حين أرى زاهداً يكثر من الطاعات أكبره ويعجبني صنيعه وعلى النقيض حين أرى غافلاً أحقره وأزدري حاله إلا أني صرت لا أكبر ولا أزدري أحداً بل إن رأيت العابد الزاهد استشعرت كم هي النعمة التي وهبها الله اياه وسألت الله من فضله وإن رأيت العاصي الغافل رأفت بحاله ووأحسست بطعم الحرمان وسألت الله الهداية له وأن لا يصيرني إلىضعه ومآله.
فهد عبدالعزيز الغفيلي