المتأمل في هذه الدنيا يشعر وكأنه يعيش في فيلم أو مسرحية طويلة يتبادل أدوار البطولة فيها شخصيات مختلفة بين الفترة والثانية؛ فيبرز هذا ويختفي ذاك، يسطع نجم أحدهم، وفي المقابل يخفت نجم آخر ويتلاشى.. وهكذا هي الأيام دول وتلك الأيام نداولها بين الناس.
لست بصدد الحديث هنا عن أشخاص تصدروا وحكموا ثم تلاشوا وتركوا الجمل بما حمل لمن خلفهم، وأمثلتهم كثيرة لا تحصى، ويكفي أن أقول إن العشر السنوات التي نعيشها شهدت غياب شموس أشخاص كانوا في الواجهة فترات طويلة جداً لدرجة ظن معها بعضنا أنهم جزء من المشهد العام ولا يمكن أن يتم المشهد دونهم، وأنا لا أخص الزعماء بل هناك وزراء ومدراء وأغنياء عاشوا حياة من يظن أنه مخلد حتى حانت نهايتهم وانتهى دورهم في هذا الفيلم فتم استبدال آخرين بهم وهكذا هي الحياة.
دعونا نتفق قبل كل شيء على أن هذه الحياة شبيهة بالأفلام التي نراها مع وجود اختلافات كثيرة طبعاً، ولكن لنقل إن الأفلام والمسرحيات التلفزيونية ما هي سوى محاكاة لواقع موجود يتصرف فيه المخرج كما يشاء، فيظهر هذا شيخاً هرماً ثم يظهره في مشهد أو فيلم آخر شاباً ناضراً يقدمه في مرة غني جداً وفي ثانية تراه من أفقر الخلق وأتعسهم حظاً.
جميل أن نتفق على إمكانية تحقق ذلك كواقع سبق أن شاهدناه.. سؤالي هنا لماذا لا نتقمص دور المخرج في حياتنا، وهذا الدور لا يتعدى كونه تقديم الشخص بصورة معينة يريدها مخرج الفيلم، ولعلي أستدرك هنا أن هذا لا يتعارض مع مشيئة الله سبحانه فهو الخالق والمدبر ولكن تحركات المخرج ستكون في حدود الدائرة المسموح له أن يتحرك بها، فعلى سبيل المثال “عبدالرحمن بن عوف” حين هاجر إلى المدينة المنورة لم يكن يملك شيئاً على الإطلاق، إلا أنه رسم لنفسه أن يكون غنياً فعمل لذلك حتى تحقق له ما أراد، وتعرفون كيف تم له ذلك دون أن أغرق في التفاصيل. وفي المقابل “سلمان الفارسي” كان غنياً جداً إلا أنه رسم لحياته طريقاً مختلفاً فعاش فقيراً كما أراد بل حتى حين تولى إمرة المسلمين في أجزاء من بلاد فارس لم يحد عن الهدف الذي رسمه لنفسه فتحقق له ما أراد.
وهذا ينطبق على كل واحدٍ منا حين يتولى القيادة ويصير نفسه حيث يشاء، فمن يريد الغنى سوف يحصل عليه بشرط أن يكون مخرجاً حاذقاً يعرف كيف يتصرف ويدير دفة الأمور حين يمسك بزمامها، أما الفقراء في كل زمان ومكان فهم أشخاص في الغالب، إما أنهم أرادوا لأنفسهم ذلك فزهدوا في الدنيا والأمثلة لا حصر لها، أو أنهم لم يزهدوا وكانوا بالفعل يتمنون لو صاروا أغنياء ولكنهم ما عرفوا كيف يحققون أهدافهم مثلما فعل غيرهم من المعدمين والشواهد عليهم في جميع الأزمنة كثيرة لا تحصى.
طيب.. دعونا من الغنى والفقر ولعلنا نتحدث عن نظرتنا إلى الحياة وطريقة تعاملنا مع الآخرين والكيفية التي نريد غيرنا أن يعاملنا بها، دعونا نبدأ من البيت كخطوة أولى ورئيسية فأنت في البيت تستطيع أن توجد مملكة سعيدة، فالزوج في الغالب لا يكدر عليه عيشه بالذات في منزله أكثر من زوجته، ولو أنه تعلم كيف يحتويها ويتعامل معها لأمكنه أن يحيلها من وسيلة تجلب الهم إلى إشراقة جميلة تملأ منزله سعادة خاصة حين يعرف كيفي يتعاطى مع طلباتها، وبالذات تلك المستحيلة، فإن طلبت شيئاً فأجبها: بحول الله سأفعل وابدأ مناقشتها في تفاصيل الطلب، وهذا بالنسبة للمرأة أكثر قيمة من تلبية الطلب نفسه. والشيء نفسه بالنسبة للزوجة التي يمكنها تغيير الحالة النفسية لزوجها بمشاركته اهتماماته وتشجيعه وتحفيزه، حتى لو أدى الأمر أن توهمه بأنه الأفضل والأحسن والأجدى وكل ما أمكن لها قوله تجاهه مقترناً بأفعل التفضيل.
وينسحب هذا على الأطفال أو الأولاد الذين من خلال حثهم وتشجيعهم يمكن أن نجعل منهم أبناء متفوقين ومتميزين، وقد كنت أستمع في إحدى المرات لإحدى الإذاعات وكانت تتحدث فيها إحدى الفتيات وكانت حائزة على جائزة في الأناقة وكانت تحكي عن نفسها وتقول: كنت في طفولتي سوداء دميمة وسمينة ولكن تشجيع والديّ المستمر لي منذ الصغر وترديدهما المستمر كلمات مثل: يا جميلة يا رشيقة يا حلوة جعلني أتغلب على خلقتي بل وساعدني ذلك في التفوق في دراستي وزيادة الاهتمام بمظهري.
وكذلك الحال مع الآباء حيث يقول صاحبي: إن والدي أصبح عصبياً صعب المراس بعد أن بلغ من العمر عتياً وصار جميع أهلي يقلقون من وضعه ويخشون من ردة فعله العنيفة تجاه أي واحدٍ منا على أتفه الأمور، وكانوا يتعجبون من محبته لي وهدوئه حين يتعامل معي، ويندر جداً أن يغضب أثناء وجودي، والسر في ذلك يكمن في أني أحدثه بالطريقة التي أسيطر من خلالها عليه دون أن يشعر، فإن غضب من فلان قلت له: يا أبي لك حق تغضب، ولكن فلان انشغل أو لم يستطع، وأبدأ في سرد الأعذار له.. وهكذا حتى ينطفئ غضبه تماماً لدرجة صارت رؤيته لي تزيل غضبه وتذهبه، ولم أكن اكتفي بذلك، بل كنت أمازحه وأجاريه في كلامه، فإن بدأ يعاتبني “ويتشره” علي كنت معه وزدت وقلت معك حق وأنا أساساً لا أستحق أباً بروعتك، فتتهلل أساريره ولا يملك نفسه من الضحك.. وهكذا تمكنت من كسب رضا والدي ومحبته.
ونفس الشيء ينطبق على الطريقة التي نتعامل بها مع إخوتنا وجيراننا وأصدقائنا وزملائنا في العمل ومدرائنا ومدرسينا وجميع المحيطين بنا.. وإن فعلنا فستتغير حياتنا بشكلٍ جذري وسنعلم أن لها قيمة أرقى وأثمن مما كنا نتصوره والفرق هنا أننا تولينا زمام الأمور وتولينا عملية الإخراج فحرصنا على نجاح فيلمنا.
إذن كما قلنا فهذه الحياة عبارة عن فيلم، ويمكننا التحكم فيه وتغيير مساره كيف شئنا، وبالطبع تحت مشيئة الله، وكما يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام عن ربه: “أنا عند ظن عبدي بي”. وكما قيل: تفاءلوا بالخير تجدوه.. ومن هنا يجب أن نتحرك وأن نبذل وأن لا نقف عند حد بل نحقق ما نريد ثم نطلب المزيد، مع الإيمان التام بالله أنه لن يضيع اجتهادنا وبذلنا، كما أن ما فاتنا لم يكن ليتحقق لنا، وما تحقق لم يكن ليفوت، وهذا كله لا يتعارض مع البذل والتخطيط والبحث عن الأفضل.
فهد عبدالعزيز الغفيلي