وسط غفلتنا وانشغالنا بما حولنا تحدث مواقف، أحياناً تذكرنا بالمصير الحتمي الذي لا مفر لواحدٍ منه، وعلى الرغم من وصفه بالشديد والعسير والصعب، وأن الشدة ستزيد مع زيادة تجاهله وعدم الاكتراث والاهتمام به، إلا أن بعضنا يستمر في غفلته ولا يستيقظ منها ـ ونسأل الله أن لا نكون من الغافلين ـ.. ولكم أن تتصوروا ما يحدث من أهوال أثناء الكوارث والنوازل التي تحل في بعض المناطق من حولنا ولعلي هنا أستشهد بإحدى تلك الكوارث التي سمعنا بها وقد يكون بعضنا شاهدها وهي حادثة العبارة المصرية “السلام 98” التي غرقت في البحر الأحمر وعلى متنها أكثر من ألف وأربعمئة مسافر، ما بين صغير وكبير ذكر وأنثى، وكيف كان وضعهم تلك اللحظات العصيبة..
فلعلنا نقف وقفات سريعة مع تلك المشاهد ونقارنها بذلك اليوم الرهيب، مع البون الشاسع بينهما، ولكن من باب تقريب الصورة فقط.
ذلك الموقف لن ينسى أبداً، ولن يمحى من مخيلة أيٍّ من الركاب ومن عايش لحظاته، فكأنما رسم في مخيلته صورة مصغرة ليوم الفزع الأكبر، فكل راكب كان مشغولاً بنفسه ولا يهتم بغيره، حتى إن بعض ركاب أحد القوارب التي أوشكت على الغرق بسبب زيادة عدد ركابه عن الطاقة الاستيعابية له طلبوا من ركاب آخرين يحاولون اللحاق بمركب النجاة أن يعودوا من حيث أتوا؛ حتى لا يغرق بهم القارب جميعاً، حيث كان على متنه خمسون شخصاً، رغم أنه مخصص لعشرة أشخاص فقط، ولم يلتفت الناجون لمن أجبر على التضحية، بل فرحوا باستقرار الأوضاع في قاربهم.
من المواقف اللافتة للانتباه أن لا أحد كان ينظر إلى من حوله وطريقة لبسه، وهل انكشف ستره من عدمه، فالموقف كان أكبر، وهذا التساؤل هو أول ما شغل بال عائشة رضي الله عنها حين أخبرها المصطفى عليه الصلاة والسلام عن أهوال يوم القيامة، وأن الناس يخرجون حفاة عراة.
العجيب فعلاً أنه وأثناء تلك اللحظات العصيبة التي لا توصف، وبينما كل مشغول بنفسه، كان هناك من ضحى وقدم ابنه وبنته وأخته وزوجه على ذاته، ولكن يوم الفزع الأكبر لن يحدث ذلك، فكل واحدٍ سيبحث عن النجاة فقط ولن يفكر بغيره، بل سيفر، كما يخبر عن ذلك المولى عز وجل بقوله: {يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} (عبس).
قبل أن نتخيل يوم الفزع الأكبر، دعونا نتخيل مشهد الناس في ذلك المكان، وسط البحر وظلمته، وظلام الليل ووحشته، واستشعار برودة الجو، وسماع تلاطم الأمواج وارتفاعها إلى ما يفوق عشرة أمتار، وصراخ الأطفال والنساء وحتى الرجال، وأثناء ذلك المشهد ورغم ما قيل إلا أن هناك من يضحي بنفسه لينجو غيره، وهناك من يعرض روحه للهلاك من أجل إنقاذ طفلٍ لا يعرفه! إذن على الرغم من هول الموقف، إلا أن المشاعر الإنسانية كانت لا تزال موجودة، ولكن يوم الفزع ستزول تلك المشاعر، ولن يبقى لها أثر، وهذا يدل على أن اقتباس صورة ولو مصغرة لذلك اليوم من تلك الحادثة تعد عديمة الفائدة؛ لأن الصورة التي لا ترتقي بالمشاعر ولا ترسم التفاصيل نفسها لا قيمة لها، ومن هنا أقول إن ذلك اليوم مختلف تماماً ولا يمكننا تصوره، أو حتى الشعور بهوله.
ولعل الحادثة تكون عوناً على أن نلبس أطواق النجاة من الآن، فمنا في ذلك اليوم من سيأتي تتقاذفه الأمواج من كل مكان، وليس بيده حيلة سوى عض أصابع الندم والحسرة، يتمنى لو يقضى عليه ولكن هيهات، فلا موت ذلك اليوم، فتلك دار الخلود، فإما نعيم أبدي أو جحيم أبدي، ومنهم من سيكون لديه طوق نجاة متفاوت في قوته ومتانته ولا يعتمد عليه كثيراً، ولو لم يكن من مساوئه إلا أنه يعرض صاحبه لهلع عظيم، هل يصمد أمام تلك الأمواج المتلاطمة؟ أم يتمزق فيغرق ويغرق صاحبه؟ ومنهم من يكون في قارب حصين مغطى آمن لا يدري بما يدور في الخارج إلا حين ينظر من خلف الزجاج، فيرى الهلع والخوف والرعب الذي يعاني منه الآخرون، فيعلم أنه أحسن حين اشترى هذا القارب الحصين وادخره لهذا اليوم الرهيب.
والآن.. ماذا عنك أنت قبل كل شيء؟ لنتفق أولاً أن هذا اليوم حاصل لا محالة.. جيد أن تهز رأسك بالموافقة ولم تطلب مني أن أثبت لك. إذن دعني أطرح عليك سؤالاً يتعلق بأي المواضع الثلاثة تحب أن ترى نفسك..
أولاً: هل تحب أن تكون في ذلك الموقف بلا طوق نجاة؟
ثانياً: هل تريد أن تشتري طوق نجاة، ولكن تذكر أن الطوق غير آمن ولا يوثق به.
ثالثاً: هناك قارب قوي ومتين ومعه ضمان بأن لا يمس صاحبه بأذى، ولا حتى يشعر بما يدور بجانبه، بل إنه لن يحزن ولن يتأثر بما يجري حوله. كأني أراك تريد الخيار الثالث! دعني أقل لك إن قيمته مرتفعة ولكن يمكنك اقتناؤه.. فاسع من الآن وابذل الغالي والنفيس للحصول عليه، وتذكر أن مصارعة الأمواج ليست ساعات، كما هو الحال في العبارة المصرية، بل سنوات طويلة، كما أن الأمواج لن تلتهمك وتقضي عليك وينتهي الأمر، فلا تدخر جهداً لتخلص نفسك، فانطلق بدأت رحلة النجاة الآن..
فهد عبدالعزيز الغفيلي