اعتادت أمتنا على تحميل غيرها أخطاءها، حتى ليظن بعض من ينتمي لهذه الأمة أن نفسه معصومة عن الخطأ، فكل ما يفعله صواب، وما يقوله عين الحق.. ولكن هناك من يوجّه الأحداث من خلف الكواليس باتجاه آخر لتصطدم بمراده وتخالفه، فتفشل مخططاته وتحول بينه وبين النجاح، وهذا يكفي بالنسبة له لينام قرير العين بلا حسيب ولا رقيب؛ لأنه كما يتوهم يعمل بجد واجتهاد وإخلاص وتفان، ولكن تجري رياح المتآمرين المتربصين بما لا تشتهي سفن إخلاصه وتفانيه وطموحاته وآماله.
والمشكلة أن هذه العادة القبيحة بدأت بأفراد ثم جماعات فمجتمعات، حتى أتت على جسد الأمة كله فنهشته ولم تبق منه شيئاً. فنحن كأمة مسلمة لا نريد أن نعترف بتخلفنا وتقهقرنا إلى الصفوف الخلفية، وإن فعلنا فلن نقر بأننا سبب ذلك، وسنعزوه إلى غيرنا، أعدائنا وأعداء ديننا الذين لم ينشغلوا بما يكفل رقيهم وتقدمهم؛ بل زادوا عليه ما يسهم في جهلنا وضعفنا وذلنا.
ولأن هذه الصفة تأصلت في نفوس بعض الأفراد، حيث بدأت على استحياء فتلقوها فرادى، ثم نظر كل منهم حوله فرآها في أقرانه، فوقرت في نفسه وتأصلت وصار يتسلح بها في كل زمان ومكان، حتى خذلته وثبطته وأقعدته عن كل عمل، وأصبح يتوهم بوجود من يمنعه من فعل ما فيه مصلحته ومنفعته.
ولو أمعنا النظر في حال كثير من إخواننا في رمضان على سبيل المثال، وتقاعسهم عن الطاعات وإقلالهم منها وركونهم إلى المشهيات والملهيات، لدرجة لو سألت معها أياً منهم عن ذلك لقال لك: أخزى الله الشيطان!.. فهو الذي يحول بيني وبين فعل الخير أعوذ بالله منه!.. وادع الله لي يا أخي أن يفك أسري منه ولو على الأقل في هذا الشهر الفضيل.
تظنون أني أبالغ في كلامي، ويعلم الله أن هذا حال الكثير من شبابنا فتيانا وفتيات، وما علموا أن من يظنون أنهم يمنعونهم ويصدونهم عن فعل الطاعات، مأسورون ومكبلون لا يستطيعون منها فكاكا ولا عنها مهرباً طوال هذا الشهر الكريم، ولكنهم تلذذوا بالمعصية فتخاذلوا عن الطاعة ثم التمسوا لذواتهم العذر برمي الشيطان بما حل بهم، واتهموه بأنه وراء الحيلولة بينهم وبين الطاعة.
ولأن المولى عز وجل يعلم مكر ابن آدم وتملصه من مسؤولية تحمل الخطأ، فقد أراد المولى عز وجل أن يمنح ابن آدم فرصة التقرب إليه وعبادته بشكلٍ أفضل، وأوحى إليه بحبس الشياطين عنه، فلا حجة لديه الآن، ولن يعيقه أحد عن عبادة الله.
ولكن مع الأسف فبدلاً من أن يستغل العباد هذه المناسبة ليرتقوا ويسموا بأنفسهم، حدثت عند البعض انتكاسة أشد وأخطر من ذي قبل، وانكشفوا على حقيقتهم، وتعرت أنفسهم وما فيها من سوء يفوق ما لدى مجموعة من الشياطين، وثبت لهم – إن هم تنبهوا لذلك – أن المتسبب في وقوعهم بالمعاصي ليس الشيطان، بل أنفسهم التي لم تعتد الخير ولم تدرب عليه، وحين تولت القيادة وحدها قادت بتهور، واتضح أن الشياطين كانت أقل اندفاعاً وتهوراً منها، وإلا ما تفسيركم لهذا الصخب من الملهيات والمشهيات في هذا الشهر سوى أن معظم الأنفس أمارة بالسوء.
ولعلكم تعودون إلى جميع العصاة والفاسقين الذين ورد ذكرهم في القرآن، حيث نسبت معاصيهم إلى أنفسهم لا إلى شياطينهم، بدءاً بقابيل الذي طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، مروراً بامرأة العزيز التي لم تبرئ نفسها واعترفت أن النفس أمارة بالسوء، وحتى السامري عندما صنع العجل لبني إسرائيل، لم ينسب تلك الفعلة للشيطان بل قال: إن نفسه سولت له ذلك ففعل.
أما بالنسبة لنا فما زلنا نرمي أخطاءنا وفشلنا وضعفنا وخنوعنا على غيرنا، حتى تقصيرنا في رمضان نقول إنه بسبب الشياطين التي لا حول لها ولا قوة، بعد أن حبسها خالقها وصرفها عن جميع بني آدم طوال شهرٍ كامل، فطوبى لمن استثمر هذه الفرصة السانحة، ويا أسفى على من ضيعها فلم يستغلها!!