لا أبالغ حين أقول إن نسبة عالية جداً من البشر تريد أن تستثمر ما لديها بما يعود عليها بالنفع من منظورها. وأنا أقول هنا “تريد” أو”تتمنى”، ولكن معظم المريدين لا يحققون شيئاً من مرادهم، وتبقى تلك الاستثمارات، بغض النظر عن مجالاتها، في مستودع الأماني ومخازن السراب.
صحيح أن هناك فئة من الناس بمجرد أن يفكر باستثمار يبدأ في تنفيذه بعد أن يدرسه دراسة وافية ويضع له الخطط اللازمة، وبعد فترة يصبح مشروعاً قائماً يدر عليه العوائد التي كان يطمح إلى تحقيقها وزيادة.
طبعاً معظم الناس يريد أن يستثمر في المجال التجاري محاولاً تحقيق العائد المادي الذي يطمع به. وسواءً حقق ما يطمح إليه أو لم يحقق، يبقى استثماره زائلاً ليس بذي قيمة حقيقية ما لم يستغل الاستغلال الأمثل، وتكون الأرباح ذات مردود يوازي قيمة السنين القصيرة التي قدر له أن يعيشها. أما أن نعيش سنوات لا تصل السبعين في الغالب ثم نصل نهايتها وقد جمعنا حفنة دراهم يستولي عليها من يأتي بعدنا فأعتقد أننا استثمرنا لغيرنا ولم نستثمر لأنفسنا!!
ولعلي أضرب مثلاً يبين الاستثمار الحقيقي الدائم الذي لا يزول، فبعد فتح الطائف أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض العرب الذين شهدوا حنيناً، ومنهم أبو سفيان، مئة ناقة، وترك الأنصار. فاجتمع الأنصار وقالوا: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً وسيوفنا تقطر من دمائهم، أفلا يعطينا؟!
فسمع عليه الصلاة والسلام ذلك, فجمعهم في حظيرة ثم أشرف عليهم وقال: يا معشر الأنصار ما قولة بلغتني عنكم؟
قالوا: هو ما سمعت يا رسول الله، أما رؤساؤنا وفقهاؤنا فلم يقولوا شيئاً, وأما شبابنا فقالوا: غفر الله لرسول الله, يعطي قريشاً من المال ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقام عليه الصلاة والسلام خطيباً.
فقال: يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟
قالوا: بلى.
قال: وأتيتكم فقراء فأغناكم الله بي؟ قالوا: بلى.
قال: وأتيتكم متخاذلين فألف الله بين قلوبكم بي؟ قالوا: بلى، والمنة لله ولرسوله.
فقال ولو شئتم لقلتم: صدقناك وقد كذبك الناس، وآوينك وقد طردك الناس، ونصرناك وقد خذلك الناس.
فقالوا: لله المنة ولرسوله.
فرفع صوته وقال: يا معشر الأنصار, أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير, وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فوالله لما تذهبون به إلى رحالكم خير مما يعود به الناس، يا معشر الأنصار, أنتم الشعار والناس الدثار, والله لو سلك الناس شعباً ووادياً لسلكت شعب الأنصار وواديهم، غفر الله للأنصار، ورحم الله الأنصار، ورحم الله أبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار, فارتفع بكاؤهم وقالوا: رضينا بالله رباً وبمحمد نبياً.
تأمل هنا الفرق بين الغنيمتين غنيمة أهل مكة وغنيمة أهل المدينة، وانظر بعد ما يزيد على ألفٍ وأربعمئة سنة إلى غنيمة الأنصار وهي حاضرة بينهم وستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وفي المقابل أبحث عن غنائم أبي سفيان فلن تجد منها شيئاً، ولو قارنت بين العائد هنا والعائد هناك لوجدت أن البون شاسع، فالاستثمار الحقيقي أو المثالي هو الاستثمار الباقي، أما الزائل فلا قيمة له حتى لو رضينا به في وقته، كما هو حال أبي سفيان وغيره حين أعطوا من تلك الغنائم.
ودعني أذكرك باستثمارٍ يغفل عنه بعضنا، ويتعلق بالشراكة في الأعمال الخيرية، وأضرب مثالاً هنا لتوضيح الأمر، لو أن شخصين اشتركا في مشروعٍ تجاري مناصفة فستوزع الأرباح بينهما بالتساوي كلٌ يأخذ نصف الربح. ولكن لو أن شخصين اشتركا في مشروعٍ خيري فسيحصل كل منهما على أجرٍ كامل دون أن ينقص من أجر الآخر شيء، بغض النظر عن عدد الشركاء، حتى لو وصلوا المئة أو زادوا عنها؛ وهذا من فضل الله.
أما الاستثمار الأفضل من سابقه وهو الأمثل بالنسبة لي، فأراه في استغلال الوالدين من قبل الأبناء من خلال اشتراكهم في مشروع خيري يكون وقفاً لأحدهما أو كليهما، بحيث يكون الأجر هنا للوالدين وللأبناء بإذن الله، ونفس الشيء حين يقوم أيٌ من الأبناء بعمل صالح ينويه لوالديه، وبهذه الطريقة ترتفع منزلة الوالدين في الجنة، خاصة مع كثرة العمل وكثرة الأبناء، والنتيجة النهائية تصير بحول الله إلى أن ترتفع منزلة الأبناء مع قلة عملهم إلى حيث يصير آباؤهم ويصدّق هذا الاستثمارَ قولُ الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} الطور 21.