لا يقلق الرجل، ولا يؤثر في نفسيته، ولا يقلل من عطائه، ولا يغير في تعامله مع الآخرين شيء أكثر من خلافات ومشكلات العمل، بل إن ذلك يمكن أن ينطبق على المرأة العاملة أيضاً..
ثم تأتي مشكلات البيت والأسرة في الدرجة الثانية، أما غيرها من المشكلات والخلافات فليست بذات الأهمية؛ فالواحد منّا يمضي ثماني ساعات في عمله، أي ثلث يومه، وينام مثلها تقريباً، ويذهب الباقي بين البيت والزيارات والأشغال الخاصة، هذا بالنسبة للأسوياء، أما الشواذ فلا حكم لهم، أولئك الذين يمضون جُل وقتهم مع الأصدقاء والأصحاب في المقاهي والاستراحات، ولست بصدد الحديث عنهم هنا، ولكني سوف أخصص مقالة مستقلة علّها تلقي الضوء على طريقة عيشهم.
وبما أن الواحد منّا يمضي قرابة ثماني ساعات بشكل يومي تقريباً، قد تزيد وقد تنقص، فهذا الوقت الهائل الذي يمثل قرابة ثلث العمر وزهرته وزبدته.. هو الذي يمكن أن يعطي فيه الإنسان فيتميز ويعتلي الهرم حتى يصل لرأسه، أو يشح فيركن إلى الهامش مع بقية العاملين الآخرين الذين لا هم لهم سوى انتظار المرتب آخر الشهر، أمّا كيف أمضى الوقت؟ وهل أدّى ما عليه من واجبات ومهام؟ وهل صاحب العمل راضٍ عنه بعد أن يرضى هو عن نفسه؟… فكل ذلك غير مهم بالنسبة له!
ولكن ما السبيل إلى الحصول على الراحة النفسية في مكان العمل قبل الوصول إلى الرضا الوظيفي والانطلاق نحو تحقيق ما يبحث عنه الأشخاص المبدعون من تميز ورقي؟ ثم هل بالإمكان أن يصل الإنسان إلى الرضا الوظيفي دون أن يحصل على الراحة والسكينة المتمثلة بإرضاء الأركان البشرية الثلاثة للعمل: الرؤساء، والمرؤوسين، والزملاء، سواء من كان منهم ذا علاقة مباشرة أو غير مباشرة في مجال العمل؟!
يجدر أن أقول هنا بأنه يندر أن يحصل إنسان على الرضا الوظيفي والترقية والترفيع دون أن يرضي تلك الأطراف الثلاثة المحيطة به، خاصة فئة الرؤساء؛ فهم الأهم في المقام الأول، ويجب كسب رضاهم مهما كلف الأمر، حتى ولو بالتنازل عن كثيرٍ من الأفكار والآراء والاجتهادات، التي وإن رآها مصيبة إلا أنه لا قيمة لها في حال رفضت من صاحب الصلاحية.
كما أن كسب المرؤوسين في منزلة أهم من كسب الزملاء كطرف ثالث في البيئة الوظيفية؛ لكون المرؤوس يرتبط برئيسه مباشرة ويجب أن يساعد كلٌّ منهما الأخر للوصول إلى الدرجة المنشودة التي تمكن كليهما من أداء العمل على الوجه المطلوب.
أما الزميل أو النظير فحتى لو اختلفت معه، فيمكن إنهاء ذلك الخلاف من قبل الرئيس أو المدير أو صاحب العمل، وإن كان كسبه يحقق الكثير من الراحة، ويزيد في الإنتاجية، ولكن يجب أن لا يكون الكسب على حساب العمل، فيخل به، مما يترتب عليه فقد الثقة الممنوحة لذلك الموظف من قبل رؤسائه، أو وضع نفسه في صورة محرجة أمام مرؤوسيه.
قد يقول أحد الأشخاص إنه يبذل ويجتهد ويعطي، ولكن كل ذلك ليس مقدراً أو لا يلتفت له من قبل رئيسه، وهذه في الغالب بداية المشكلة لدى العاملين، سواء علت أو انخفضت مناصبهم؛ لأن المديرين إما أنهم يرون أن لدى هؤلاء الأشخاص الكثير مما يستطيعون تقديمه، ولكنهم لم يبذلوا ما يكفي لتقديرهم وشكرهم، مقارنة بما لديهم من إمكانيات، وبما يحصلون عليه من مزايا، وهذه أكبر الإشكالات وأخطرها على المرؤوسين في حال تفكير الرؤساء أن العطاء لا يتواكب مع الامتيازات.
وهناك أمرٌ آخر وهو: أن يكون الأداء جيدا ومرضيا عنه، ولكنه بحاجة للمزيد ليصل إلى درجة التي تستحق الثناء والإشادة، ولكن استعجال بعض العاملين أو الموظفين في الحصول على ذلك إما بالطلب المباشر أو بالتلميح قد يتسبب – في الغالب – في امتناع أرباب العمل عن توجيه مثل تلك الثناءات والإشادات لا بطريقة رسمية ولا حتى ودية؛ لأنهم لا يريدون من أحدٍ أن يملي عليهم ما يجب فعله، فهم يرون ويقيمون ويكافئون ويحاسبون بالطريقة التي رسموها هم لا بالطريقة التي يفرضها غيرهم.
قد نصل إلى مرحلة أصعب من طلب الثناء، أو قد يمتد سوء الفهم في عملية تقدير العمل وتقييمه إلى مرحلة يصل معها الشخص إلى التفكير بأنه غير مرغوب فيه، فيتسبب ذلك في التأثير عليه وتغيير نفسيته، ويظهر ذلك في طريقة تعامله مع أطراف العمل الثلاثة؛ حيث يكون عصبياً ومشحوناً نفسياً وإن حاول إظهار خلاف ذلك، إلا أن أي رفض لأمرٍ أو توجيه لمن هم أقل منه، أو عدم تلبية طلباته من قبل نظرائه، أو رفض مقترحاته واجتهاداته من قبل رؤسائه يجعله يغضب ويثور ويناقش، محاولة منه إجبار الأطراف الأخرى على تنفيذ ما يراه هو فقط.
حين تصل الأمور إلى هذه الدرجة، يصبح الإنسان في مفترق طرق، ويبدأ القلق والتعب النفسي يظهر عليه، وقد يمتد إلى طريقة تعامله مع أهله وأطفاله، ويضطره ذلك إلى التذمر والتشكي والحديث، أو ما يسمى “بالفضفضة” عند بعض الأصحاب سواء في العمل أو خارجه، وهنا مفترق الطريق؛ فإما أن يسقط في أحضان من لا يرحمه ولا يريد له الخير من أصحاب سوء، فيشحنه ويعطيه ويسمعه من الكلام ما يكفي ليكون القشة التي تقصم ظهر البعير. وإما أن يرزق بصديق يدله على الخير ويوضح له الصواب ويساعده في تجاوز محنته فيعود أفضل مما كان.
وقد يتساءل أحدنا عن كيفية التفريق بين رفيق السوء لتجنبه، والأخ المحب للانتفاع به. فأقول:
إنه من السهل معرفة كلا الطرفين بسهولة، فحين تذهب إلى زميل أو صديق لتشركه في همّك، وتبث إليه شكواك وحزنك؛ وتطلب تدخله لمساعدتك في حل مشكلتك، فإن سمعت منه كلمات على شاكلة: لا يهمك، ما له حق، الله يهديه، شدّ عليه، “طنشه”… فاهرب من هذا السفيه كما تهرب من النار قبل أن تحرقك، وفر منه فرارك من المجذوم؛ فهذا حاسد يريد زوال نعمتك!
أما الأخر فهو خلاف ذلك حيث يحاول تهدئة الأمور وتبسيطها ويظهر جوانب النقص والعيب والخلل فيك، ولا يتعرض ولا يغتاب الطرف الآخر، فهذا الزمه وكن على يقين أنه هبة من الله لك فاستفد من تلك الهبة قدر استطاعتك فسيفيدك في جميع مجالات حياتك المختلفة!