سلوك البراغيث

كان يعتني بمنزله الكبير، ينظفه ويعقمه، لا يؤذي أحداً ولا يقبل أذية من أحد، وكان صارماً جداً في سياسته. هذه الصرامة أغضبت البراغيث، التي تريد التصرف بفوضوية، ودون النظر إلى عواقب الأمور. فكرت البراغيث بطريقة للانتقام من صاحب المنزل والتخلص منه، وكانت تدرك أنها غير قادرة على إلحاق الأذى به. استدعت البراغيث من يفوقها قوة من حشراتٍ مؤذية وهوامٍ سامة لتساعدها في مضايقة صاحب المنزل لعله يهرب منه. أغرت البراغيث الحشرات والهوام الطامعة بأن تعطيها جزءاً من المنزل بعد هروب صاحبه منه واستيلائها عليه. وافقت كل الحشرات المدعوة، وسكنت في نتوء صغير في إحدى زوايا المنزل، تسرح وتمرح، تأكل وتشرب على حساب البراغيث. استمر الصرف على الحشرات والهوام التي صارت تقاسم البراغيث لقمتها ولا تشبع. أيقنت البراغيث أنها لا تستطيع الاستمرار في الصرف على كل هذه الكائنات التي لا تريد مغادرة المكان، ولا بصيص أمل في تحقيق الأطماع. تأملت البراغيث في حالها، وعلمت أنها ستختنق لا محالة. فبعد أن كانت تعيش وحدها في ذلك النتوء ودون مضايقة من أحد، تسرح وتمرح كيف شاءت داخل المنزل الكبير، ومنه تمر إلى منازل أخرى، صارت الآن محشورةَ وسط نتوئها الصغير الذي تشاركها فيه حشرات مؤذية وهوام سامة، قاسمها المشترك أنها دائماَ جائعة ولا يسد رمقها ما تجده في نتوء البراغيث، والأخطر من هذا كله أنه لا أمان لها. ندمت البراغيث، ”ولات ساعة مندم“، ورغبت في العودة إلى سابق العهد، وصات تطلب من كل أحد وفي كل مناسبة التوسط والشفاعة. الغريب، وبعد كل ما اقترفته البراغيث من حماقات، لم يكن هناك ما يحول دون عودتها، إلا تخلصها من كل تلك الحشرات والهوام التي استوطنت نتوأها الصغير، وصارت تشكل خطراً ليس على الدار فحسب، بل على الحي بأكمله. اجتمعت البراغيث لتنظر في كيفية التخلص من أولئك المستوطنين، وتفرقوا وكل واحد يضمر لصاحبه ويفكر في كيفية التخلص منه بمساعدة إحدى الحشرات المستوطنة. ما تعلمت البراغيث من عِبَر الزمان، وما أدركت أن التخريب الذي دبروا له في المنزل الكبير، صاروا يعانون منه داخل نتوءهم الضئيل.

د. فهد بن عبد العزيز الغفيلي